الرعاية الصحية في الولايات المتحدة.. بين مطرقة الخلافات السياسية وسندان الـ”بيغ فارما”
بشرى أزور – ومع
تروي الدعابة أن طفلا في الولايات المتحدة سأل أباه من هو الكندي؟ ليكون الجواب “هو أمريكي يتوفر على تأمين صحي جيد”. تعبير صارخ عن معضلة تقض مضجع العديد من مواطني بلد العم سام، وتسلط الضوء، على الخصوص، على حجم دور عمالقة الصناعة الدوائية في ارتفاع كلفة علاج العديد من الأمراض.
دعاوى قضائية بالعشرات، وتسويات بأرقام فلكية لإخماد غضب المرضى، وعلى منصة الاتهام: شركات الصناعة الدوائية التي راكمت أرباحا ضخمة تجاوزت الـ82 مليار دولار في 2022.
وبرأي الخبراء، فإن هذه الشركات تساهم في تكريس وضع يثير القلق بشأن الكلفة الباهظة للعلاجات، وتأثير العديد من منتجات الصناعة الدوائية على صحة الأمريكيين. فما بين عامي 1999 و2021، تسببت جرعات الأدوية الزائدة في وفاة أكثر من مليون شخص في الولايات المتحدة، كان معظمها بسبب المواد الأفيونية.
++ أنظمة الرعاية الصحية في الولايات المتحدة.. قضية شائكة
رغم أن نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة يساهم بحوالي 17 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أنه لا يوفر تغطية شاملة، في بلد يزيد تعداد سكانه عن 330 مليون نسمة، ويواجه عددا من الصعاب تتمثل أساسا في كون فئات عريضة من المجتمع محرومة من التغطية الصحية الشاملة.
يتم توفير خدمات الرعاية الصحية، على الخصوص، من خلال مرافق الرعاية الصحية في القطاع الخاص. ويتم دفع تكاليف هذه الخدمات عبر مجموعة من البرامج الحكومية والتأمين الخاص وأيضا الدفع المباشر من قبل الأفراد مقابل العلاج عند الحاجة. كما تختلف الأنظمة الصحية المعمول بها على صعيد كل ولاية.
وتركز العديد من برامج الرعاية الصحية الحكومية (من قبيل Medicaid وMedicare) على فئات معينة من المجتمع، لاسيما كبار السن وذوي الدخل المنخفض ومتقاعدي الخدمة العسكرية.
في سنة 2010، سن الكونغرس الأمريكي قانون الرعاية الصحية الأمريكي، المعروف باسم “أوباما كير”، الذي أقره الرئيس السابق باراك أوباما، وشكل أحد الأهم الإصلاحات لنظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، رغم المعارضة السياسية والصعوبات التي واجهت تنفيذه.
فبعد أن كان الرئيس السابق، دونالد ترامب، قاب قوسين أو أدنى من إلغاء “أوباما كير”، أثناء وجوده في البيت الأبيض، عاد الموضوع ليطرح من جديد مع ترشحه مجددا للانتخابات المقررة في نونبر المقبل.
إذ هدد ترامب بإعادة فتح المعركة المثيرة للجدل حول هذا القانون الفدرالي سعيا ل”إيجاد البدائل”، معتبرا أن كلفة “أوباما كير” تخرج عن نطاق السيطرة.
هذه التصريحات أثارت انتقادات في صفوف حملة الرئيس الديمقراطي جو بايدن، واصفة إياها بالاقتراح “المتطرف”.
ويظهر استطلاع للرأي أجرته شبكة “ABC News/Ipsos” مؤخرا أن 38 بالمائة من الأمريكيين يثقون أكثر في إدارة بايدن الديمقراطية في ما يتعلق بالرعاية الصحية، في مقابل 28 بالمائة لصالح تعامل الجمهوريين مع هذا الملف.
++ جشع الـ”بيغ فارما”.. “خصم مشترك” للحزبين
خلال جلسة استماع مؤخرا، وجه أعضاء من الكونغرس أصابع الاتهام إلى شركات الـ”بيغ فارما” باستنزاف موارد الأمريكيين عبر زيادة تكلفة أدوية العديد من الأمراض المزمنة، مقارنة ببلدان أخرى.
دافعت هذه الشركات عن سياساتها بحكم بارتفاع تكاليف المواد الأولية المستخدمة، وميزانية البحث العلمي الباهظة، إلى جانب إكراهات لوجستية.
في لحظة نادرة، يتفق المعسكران الجمهوري والديمقراطي على نعت شركات الصناعة الدوائية العملاقة بـ”أصل الداء”. إذ تجد هذه الأخيرة نفسها في مأزق، أمام تعهد الرئيس بايدن ومنافسه، الرئيس السابق دونالد ترامب، بالتصدي لجشع هذه الشركات.
فالرئيس بايدن يدفع بأنه نجح في إقناع الكونغرس بتمكين برنامج “Medicare” من التفاوض على خفض أسعار الأدوية، في خطوة اعتبرتها شركات الأدوية ضربة قاسية. أما موقف دونالد ترامب، فقد انتقل من انتقاد ارتفاع أسعار الأدوية إلى تبني مواقف الجناح المتطرف في حزبه، الذي ما فتئ يندد بأضرار عدد من منتجات الصناعة الدوائية على صحة الأمريكيين.
++ التسويات المالية.. غيض من فيض
مطلع الشهر الجاري، أجبر القضاء الأمريكي أحد فروع شركة الإعلانات الفرنسية العملاقة “بوبليسيس”، التي ساهمت في الدعاية لأدوية مسكنة للألم، على دفع 350 مليون دولار، بسبب تورطها في أزمة المواد الأفيونية في الولايات المتحدة.
إذ اعتبرت العدالة أن الشركة شجعت على الإفراط في الجرعات التي وصفها لعلاج المرضى.
في قضية مماثلة، أعلنت شركة “جونسون أند جونسون”، الشهر الماضي، أنها توصلت إلى اتفاق مبدئي تقوم بموجبه بأداء حوالي 700 مليون دولار، من أجل تسوية دعاوى تم رفعها في أزيد من 40 ولاية أمريكية اتهمت الشركة بتسويق منتجات تسبب السرطان
ورغم أن هذه الشركة أكدت أن الصفقة لا تمثل إقرارا بالذنب، وأن منتجاتها التي تحتوي على مسحوق التلك “آمنة”، إلا أنها قامت بسحب هذه المنتجات من أسواق أمريكا الشمالية.
ومنذ مطلع الألفية، وافقت شركات لصناعة الأدوية، وتجار الجملة، وسلاسل الصيدليات والاستشاريون، على دفع أزيد من 50 مليار دولار لإنهاء الدعاوى القضائية المرتبطة بدورهم في أزمة المواد الأفيونية.
قضية الرعاية الصحية، وعلى الخصوص السيطرة على تكاليف العلاجات الصحية، وأيضا التأثير السلبي للعديد من الأدوية على صحة الأمريكيين، ستكون من بين القضايا الهامة في صلب الحملات الانتخابية للطامحين إلى الوصول للبيت الأبيض، وذلك برسم الاقتراع الرئاسي المقرر في نونبر المقبل.
وبغض النظر عن الفائز في السباق نحو البيت الأبيض، فإن الـ”بيغ فارما” قد تواجه خصما عنيدا، لكون الإدارتين الديمقراطية والجمهورية، وعلى حد سواء، تضعان شركات صناعة الأدوية نصب الأعين.