رأس السنة : طقوس متعددة وذكريات مشتركة

0

ليست رأس السنة مجرد تاريخ يتغير في التقويم، بل لحظة تتزاحم فيها الذاكرة مع العادة، والحنين مع الواقع. نحتفل بها بطرق مختلفة، نرتدي لها وجوها متعددة، لكننا نحمل في داخلنا الإحساس ذاته: نهاية شيء وبداية آخر. بين طقوس ورثناها وأخرى استعرناها، تتشكل ذاكرتنا الجماعية، حيث لا يهم كيف نحتفل بقدر ما يهم ما نشعر به ونحن نفعل.

في ماضينا.. لم يكن الاحتفال برأس السنة الأمازيغية، يحظى بنفس الاهتمام كما السنة الميلادية. كانت أيام الميلاد مليئة ببطاقات التهنئة، وتخيل شكل كعكة رأس السنة، وترقب إعلانات السهرات التلفزيونية المبكرة. أما طقوس “إيض إيناير“، فكانت تمر هادئة، لا نراها إلا من خلال روائح الطعام التقليدي، “تاكلا” و”أوركيمن”، و”الإسفنج” الذي تصنعه الأمهات، والذي يختلف تماما عن إسفنج الشارع شكلا ومذاقا. كيف ذلك؟ الله وحده أعلم.

كان رأس السنة الميلادية بالنسبة لي أنذاك، مجرد موعد لبدء أولى محاولات إقناع الست الوالدة رحمة الله عليها، بضرورة منحي النقود لشراء القشدة لتحضير كعكة الميلاد، فعيد الميلاد بالنسبة لي بدون الكريمة، كعيد الأضحى بدون أضحية. كنا نترقب بلهفة موعد بداية سهرة رأس السنة على القناة الثانية “دوزيم” قبل أن تدخل القناة الأولى هي الأخرى غمار المنافسة. لم نكن وقتها ننام باكرا ونحن أطفال والموسم موسم الشتاء. بل كنا ننتظر العد التنازلي للصعود الى سطح المنزل لملاحقة الشهب الإصطناعية القادمة من كورنيش أكادير.  فقد كان ارتباطنا بهذه المناسبة التي لا نعرف لها أصلا أنذاك وثيقا. الحاجة الوحيدة التي لم نكن نؤمن بوجودها، هو ذلك الشيخ العجوز الذي يرتدي رداء أحمر وله لحية بيضاء، ويمتطي جديا كبيرا. إنه “بابا نويل” الذي يوزع الهدايا بعد منتصف الليل خلسة على الصغار دون مقابل. بقدر ما كنا نؤمن بوجود شيء إسمه الجن والأرواح.

كان احتفالنا هذا نتيجة صورة جاهزة صنعت لنا بعناية. فقد نجح الإعلام، لسنوات طويلة، في تحويل ليلة واحدة إلى رمز عالمي للفرح، وحدد لنا كيف نبتسم، ماذا نأكل، ومتى نشعر بأننا دخلنا عاما جديدا. لم نسأل كثيرا عن المعنى، لأن المشهد كان مكتملا: سهرة تلفزيونية، عد تنازلي،حلوى الكريمة المزورة، مع مشروب غازي أو عصير رخيص … وهناك حالات استثنائية كانت والدتي تذبح لنا دجاجة سمينة ترحيبا بالعام الجديد، وكان والدي يأخذ الحصة الأكبر، طبعا فهو الراعي ونحن الرعية. هذا كله كان كافيا ليقنعنا بأننا نحتفل. فقد أثرت فينا المسلسلات المكسيكية والكرتونية أيما تأثير ، فهي لم تكن مجرد أعمال تعرض على الشاشة، بل دروسا غير معلنة في الفرح والحزن، في الحب والفقد، وفي كيفية الاحتفال أيضا. يكفي أن “سالي” و”جودي أبوط” و”غودالوبي” و “ماريا” ابنة الحي، قد احتفلن برأس السنة الجديدة. فما المانع من احتفالنا نحن أيضا.

مشاهد تعلمنا منها كيف تكون رأس السنة مناسبة للاحتفال وكيف يختزل الزمن في ليلة واحدة تنطفئ بعدها الأضواء ويطوى العام. ومع تكرار المشاهد، ترسخت الصورة في وعينا، حتى صرنا نحتفل بما شاهدناه أكثر مما نحتفل بما نعيشه.

أما اليوم، فقد عاد كثير من الأمازيغ في المدن إلى الاحتفال بالتقويم الأمازيغي، بعد سنوات طويلة من الاكتفاء برأس السنة الميلادية. عودة لا تعني القطيعة مع ما هو عالمي، بقدر ما تعبر عن رغبة في استعادة جزء من الذاكرة، ومن زمن كاد ينسى تحت ضغط الصورة الواحدة والاحتفال الواحد.

لقد تعلمنا من هذا التباين أن الاحتفال ليس مجرد يوم محدد في التقويم، ولا بعدد الأضواء والأغاني، بل هو تجربة ومشاركة، هو ذاكرة وطقوس، هو مساحة بين الماضي والحاضر، بين ما نرثه وما نكتشفه. وربما يكمن جمال رأس السنة الحقيقي في أن تكون له أكثر من لغة، أكثر من ذاكرة، وأكثر من طقس، يحتفل به كل قلب بطريقته الخاصة.

كل عام وانتم بألف خير…

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.